في نهاية عام 1979، كنت عائدًا إلى بيروت من أبوظبي بصحبة زوجتي فادية السَعودية وطفلينا منيرة (سنتان وشهران) وعامر (سنة وشهر) على متن طائرة خطوط الشرق الأوسط اللبنانية من طراز بوينغ 707/720 القديم. جُهزّت المقصورة الأمامية في الطائرة بمقاعد متقابلة، حيث كان يجلس قبالتنا خوري روم مُسنّ وزوجته، كما علمنا لاحقًا، الخورية. أعلن القبطان عن الإقلاع طالبًا ربط حزام ألامان، وفي تلك اللحظة خاطبتني زوجتي بصوت مضطرب “منيرة عم تغلي. طلعت حرارتها، وأنا ما جبت معي دوا الحرارة”. أجبتها، “لمّا يطفي القبطان نور حزام الأمان في عندي دوا”.
ولمّا أطفئ القبطان النور، حملت منيرة وتوجهت نحو الخوري قائلًا، “أبونا، البنت طلعت حرارتها ومرتي نسيت الدوا بالبيت”، فأشار لي أبونا أن أضع منيرة في حُضنه، ففعلت، وطلب من المضيفة كوب ماءٍ باركه ثم مسح به على وجه منيرة، فعادت منيرة إلى نشاطها تحكي. سألتني بالإنكليزية “هل أقدر أن ألمس هذه”، مشيرةً إلى لحية الخوريّ التي تلامسها، فأومأت إليها. مدّت منيرة يدها الصغيرة ولامست لحيته، فسرّ وقال لي، “الرب شفع، راحت الحرارة”. شكرتُ أبانا وشكرَتْه منيرة بقُبلة حميمة، ثم عدنا أدراج مقعدَينا إلى زوجتي المذهولة.
بعد نصف ساعة تجهّم وجه زوجتي قائلة، “عامر عم يغلي”. حملتُ عامر وتوجهتُ مرة أخرى إلى الخوري، “أبونا الصبي عم يغلي”. ردّت الخورية، “باسم الصليب حُط الشقّور بحَرجي”. نفّذتُ أمرَ الخورية، وطلبت الخورية الشفاعة للصبي الأشقر. طلبَتْ كوبَ ماء باركه أبونا، ومسحت به الخورية على وجه الصبي، فذهبت الحرارة ونام الشقّور. أصرّت الخورية أن تُبقي عامر في حَجرِها. قامت زوجتي لتُريح الخورية من حملِ ابنها، فرفضت الخورية عرض زوجتي، وأصرّت على حملِه، وسائلت زوجتي: “أمّ الشقّور روسية؟!” فأجابت زوجتي أنا أُمُه.
صرفت الخورية زوجتي، وأبقت الشقّور في حَجرِها بقية الرحلة حتى فترة الأكل. نعِمَ عامر بدفء محبة الخورية وبركة الرب وأمه العذراء أم النور وجميع القديسين. نال بركة الصليب على وجهه كل خمس دقائق حتى هبوط الطائرة في مطار بيروت الدولي، وكان وقتها بلا أنفاق.
ربضت الطائرة قبالة مبنى المطار ونُقل ركاب الطائرات إلى المبنى بحافلات. وكانت حافلة ركاب المقصورة الأمامية صغيرة مُجهزة بمقاعد مريحة. نزل أبونا تتبعه الخورية، ونزلت أنا وزوجتي نحملُ منيرة والشقّور. وكنا وحدنا في الحافلة مع أبونا والخورية التي استرجعت عامر مرة أخرى. قالت الخورية لنا أن ابنها مدير شركة تأمين في أبوظبي زاراه لمدة لأسبوع، ولكنها “ما في أحلى من لبنان”. أجبتها قائلًا إن “الرب أعطى مجدَه للبنان”. سألني أبونا “شو اسمك يا ابني؟” أجبت “عدنان”، “والعيلة”، أجبت “خياط”، “وأبيك؟” أجبت “صلاح”، “من وين البركة؟”، “من صيدا”.
لم يحلّ أبونا لغزي، فلا اسمي ولا اسم والدي ولا اسم عائلتي كافية لكشف هويتي، فهي تصلح لكل الطوائف والأديان لا سيما الروم، علاوة على أن مدينة صيدا كانت مختلطة في حينه. وصلنا إلى مبنى المطار وشارفنا على الوداع. سألني أبونا “الست منين؟” أجبتُ “من المدينة”، “أي مدينة يابني؟” أجبت “المدينة المنوّرة”، فسأل أبونا “بالحجاز؟” ردّيت بالإيجاب. وقبل أن يمضي أبونا، باركَنا، وودّعت الخورية الشقّور بغمرِه بالقُبُلات وتصليبِ وجهه. شكرنا الخوريّ وزوجته على البركة والمحبة.
بعد قرابة أربعين سنة، منيرة وعامر وزوجتي السعودية وأنا نلقي عليكُما التحية ونذكّركما بفرِح عظيم.