زوجتي السعودية وخوريّ الروم في الطائرة

زوجتي السعودية وخوريّ الروم في الطائرة

في نهاية عام 1979، كنت عائدًا إلى بيروت من أبوظبي بصحبة زوجتي فادية السَعودية وطفلينا منيرة (سنتان وشهران) وعامر (سنة وشهر) على متن طائرة خطوط الشرق الأوسط اللبنانية من طراز بوينغ 707/720 القديم. جُهزّت المقصورة الأمامية في الطائرة بمقاعد متقابلة، حيث كان يجلس قبالتنا خوري روم مُسنّ وزوجته، كما علمنا لاحقًا، الخورية. أعلن القبطان عن الإقلاع طالبًا ربط حزام ألامان، وفي تلك اللحظة خاطبتني زوجتي بصوت مضطرب “منيرة عم تغلي. طلعت حرارتها، وأنا ما جبت معي دوا الحرارة”. أجبتها، “لمّا يطفي القبطان نور حزام الأمان في عندي دوا”.

 

 

ولمّا أطفئ القبطان النور، حملت منيرة وتوجهت نحو الخوري قائلًا، “أبونا، البنت طلعت حرارتها ومرتي نسيت الدوا بالبيت”، فأشار لي أبونا أن أضع منيرة في حُضنه، ففعلت، وطلب من المضيفة كوب ماءٍ باركه ثم مسح به على وجه منيرة، فعادت منيرة إلى نشاطها تحكي. سألتني بالإنكليزية “هل أقدر أن ألمس هذه”، مشيرةً إلى لحية الخوريّ التي تلامسها، فأومأت إليها. مدّت منيرة يدها الصغيرة ولامست لحيته، فسرّ وقال لي، “الرب شفع، راحت الحرارة”. شكرتُ أبانا وشكرَتْه منيرة بقُبلة حميمة، ثم عدنا أدراج مقعدَينا إلى زوجتي المذهولة.

 

 

بعد نصف ساعة تجهّم وجه زوجتي قائلة، “عامر عم يغلي”. حملتُ عامر وتوجهتُ مرة أخرى إلى الخوري، “أبونا الصبي عم يغلي”. ردّت الخورية، “باسم الصليب حُط الشقّور بحَرجي”. نفّذتُ أمرَ الخورية، وطلبت الخورية الشفاعة للصبي الأشقر. طلبَتْ كوبَ ماء باركه أبونا، ومسحت به الخورية على وجه الصبي، فذهبت الحرارة ونام الشقّور. أصرّت الخورية أن تُبقي عامر في حَجرِها. قامت زوجتي لتُريح الخورية من حملِ ابنها، فرفضت الخورية عرض زوجتي، وأصرّت على حملِه، وسائلت زوجتي: “أمّ الشقّور روسية؟!” فأجابت زوجتي أنا أُمُه.

 

 

صرفت الخورية زوجتي، وأبقت الشقّور في حَجرِها بقية الرحلة حتى فترة الأكل. نعِمَ عامر بدفء محبة الخورية وبركة الرب وأمه العذراء أم النور وجميع القديسين. نال بركة الصليب على وجهه كل خمس دقائق حتى هبوط الطائرة في مطار بيروت الدولي، وكان وقتها بلا أنفاق.

ربضت الطائرة قبالة مبنى المطار ونُقل ركاب الطائرات إلى المبنى بحافلات. وكانت حافلة ركاب المقصورة الأمامية صغيرة مُجهزة بمقاعد مريحة. نزل أبونا تتبعه الخورية، ونزلت أنا وزوجتي نحملُ منيرة والشقّور. وكنا وحدنا في الحافلة مع أبونا والخورية التي استرجعت عامر مرة أخرى. قالت الخورية لنا أن ابنها مدير شركة تأمين في أبوظبي زاراه لمدة لأسبوع، ولكنها “ما في أحلى من لبنان”. أجبتها قائلًا إن “الرب أعطى مجدَه للبنان”. سألني أبونا “شو اسمك يا ابني؟” أجبت “عدنان”، “والعيلة”، أجبت “خياط”، “وأبيك؟” أجبت “صلاح”، “من وين البركة؟”، “من صيدا”.

 

 

لم يحلّ أبونا لغزي، فلا اسمي ولا اسم والدي ولا اسم عائلتي كافية لكشف هويتي، فهي تصلح لكل الطوائف والأديان لا سيما الروم، علاوة على أن مدينة صيدا كانت مختلطة في حينه. وصلنا إلى مبنى المطار وشارفنا على الوداع. سألني أبونا “الست منين؟” أجبتُ “من المدينة”، “أي مدينة يابني؟” أجبت “المدينة المنوّرة”، فسأل أبونا “بالحجاز؟” ردّيت بالإيجاب. وقبل أن يمضي أبونا، باركَنا، وودّعت الخورية الشقّور بغمرِه بالقُبُلات وتصليبِ وجهه. شكرنا الخوريّ وزوجته على البركة والمحبة.

بعد قرابة أربعين سنة، منيرة وعامر وزوجتي السعودية وأنا نلقي عليكُما التحية ونذكّركما بفرِح عظيم.

 

 

 

عدنان الخياط –

الموارنة عرب لبنان العاربة… والسُنّة عرب لبنان المستعرِبة‎

الموارنة عرب لبنان العاربة… والسُنّة عرب لبنان المستعرِبة‎

بمناسبة عيد مار مارون السوري العربي المولود في قرية براد في محافظة حلب التي كانت تتبع أنطاكية، المدينة السورية المحتلة ضمن لواء الاسكندرون السليب، أتوجه إلى الموارنة العرب في سورية ولبنان وقبرص بالتهنئة بعيد القديس مار مارون العربي.

في سورية في عام 400 ميلادية، أسس الشفيع مار مارون المارونية التي تختلف عقائديًا عن الأرثوذكسية دين بيزنطة الرسمي، وذلك قبل الفتح الإسلامي لسورية بأكثر من مائتي عام. وتعرّض الموارنة في سورية إلى اضطهاد الكنيسة الأرثوذكسية النافذة في ظل بيزنطة، ما دفع موارنة سورية للنزوح إلى جبال شمال لبنان ومن ثم إلى جبل لبنان والجنوب.

maxresdefault

وموارنة لبنان لا زالوا متمسكين بالموروث القبلي العربي. فهناك موارنة سادة من أهل البيت مثل الهاشم، وهناك موارنة كانوا شيعة عرب من قبيلة وائل، مثل سلامة ومزنر وغيرهما. ومعظم موارنة لبنان غساسنة أو تغالبة. وهناك عائلات مارونية تحمل لقب شيخ، مثل جميل، وحرب، وهاشم، وطوق، وخوري، وغيرها. وأول رئيس جمهورية للبنان المستقل كان اسمه الرسمي “الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية”، أي الشيخ قبل الجمهورية.  ورئيس الجمهورية السابق إلياس الهرواي كان غسانيًا، ومدرّسي الاستاذ يوسف أبو رزق كان مارونيًا من تغلب (من قرية غلبون). وصديقي فادي كلّيب ماروني من كليّب (تاج قبائل العرب).

وإذا قارنًا بين الموارنة من ناحية والسُنّة من ناحية أخرى، نجد أن رئيس الموارنة الروحي البطريرك يعتمر عمامة العرب لباسًا رسميًا، فيما مفتي السنة يلبس ربطة عنق. فالبطريرك أمين على الإرث العربي، ومفتي السنة أمين على الإرث الآوروبي! أمّا معظم مدن السُنّة الساحلية من أصول تركية وكردية وألبانّية، ومن آسيا الوسطى ومصر والمغرب وغيرها. وألقاب معظم العائلات السنيّة التي تنتهي أسماؤها بالواو من أصول كردية مثل محيو، ومستو، وحوشو، وغيرها. وقوجق اسم رجل الدين اليزيدي الكردي، وحوحو وكيوان كلّها أسماء كردية. وفي إقليم الخروب، تعود جذور العائلات السنيّة لأصول كردية.

أمّا معظم العائلات التي ينتهي اسمها ب “جي” مثل بتكجي، واكمكجي، وتتنوجي هي تركية الأصل. وفي عكار السنّية، هناك بلدات تركية مثل عيدمون والكواثرة. ومملوك في صور، والصُلح في بعلبك تركمان، وأرناؤوط من ألبانيا، وبخاري من بخارى. أمّا والد نائب صيدا الشهيد معروف سعد كان بحارًا مصريًا سكن صيدا وتزوج مسيحية من درب السّين. ومثل المصري، عائلات الكردي والمغربي والقبرصلي والهندي والبوشناق (نسبة الى البوسنة)، والعجمي، وغيرها.

الخلاصة هي أن المورانة عرب أقحاح عاربة، بطركهم يعتمر العمامة العربية، وقدّاسهم يفتتح باللغة العربية، غساسنة تغالبة مناذرة. والطوباي مار مارون سوري عربي ولبناني أيضًا. وكل عام وأنتم بخير.

عدنان الخياط (سنّي عربي، مُستعرِب)

النازحون السوريون في لبنان واستخراج الغاز والنفط

النازحون السوريون في لبنان واستخراج الغاز والنفط
 

كانت البلدان النفطية في الجزيرة العربية شبه مُشرعَة الأبواب قبل استخراج النفط. ولم يكن مواطنو دول الجوار بحاجة للسفر لتلك البلدان الفقيرة مثل السعودية أو الكويت أو قطر أو مشيخات الساحل المتصالح (الإمارات حاليًا). وعلى سبيل المثال طالب شيخ الكويت رسميًا العودة للعراق في عام 1938، بناءً على مطلب شعبي، للاستفادة من مؤسساته الخدمية، والمياه الصالحة للشرب، ونظاميّ التعليم والصحة، ودفع رواتب الموظفين الأميريين، إلخ.

وكانت البلدان الأخرى آنفة الذكر أشد فقرًا وعزلة من الكويت. فالسعودية كانت تعتمد في الأساس على موارد الحج، وكانت المملكة المصرية تتكفل بكسوة الكعبة . أمّا المورد الرئيسي لمشيخات الساحل المتصالح كان صيد اللؤلؤ. ولم تكن قطر أحسن حالًا.

main-qimg-e5f418b0b44873c2637a07404cbd1916tumblr_ndfukxBIhQ1ts07v9o1_1280

وتعلم الكثير من القيادات السياسية والعسكرية في البلدان النفطية في العراق ومصر والسودان بمِنح دراسية مجانية. فقد درس الملك فهد، خامس الملوك السعوديين، في معهد “بخت الرُضا” في السودان في عام 1945 ولم يتخرج. وتخرج حاكم الشارقة سلطان بن محمد القاسمي مهندسًا زراعيًا من جامعة القاهرة في عام 1971.

وشكّل اكتشاف استخراج في الجزيرة العربية في العقد الرابع من القرن العشرين، عامل جذب لمواطني دول الجوار، فتدفقت القبائل مثل شمر وعنزة والمطيري والنعيمي وغيرها، وتدفق على مشيخات النفط مواطني العراق والأردن واليمن وعُمان وإيران وسوريا ومصر. وأجَج تصدير النفط الحاجة لأيدي عاملة، شرعية وغير شرعية، في مختلف المجالات. وعلى سبيل المثال في الكويت، استُخدم الوافدون غير الشرعيين في استخراج النفط والإعمار، وفي الشرطة والجيش، ولذلك نشأت في الكويت شريحة مجتمعية بلا جنسية (البدون)، وهم بلا حقوق على عكس مواطني الدول الخليجية الأخرى.

في عشيّة حرب الخليج الأولى، بلغ تعداد البدون في الكويت ذروته إذ وصل لحوالي 250 ألف نسمة. وبالرغم من انتماءات البدون القبلية، والبعض منهم ينتمي للجيل الثالث في تلك البلدان النفطية، إلا أنهم لم يُمنحوا الجنسية. ويبلغ تعداد البدون في الدول النفطية الآن أكثر من ستمائة ألف، وتعود مأساتهم لأكثر من سبعين سنة، وسبباها الرئيسيان هما النفط والغاز.

ترك بعض “بدون” البادية السورية في خمسينيات القرن الماضي، وجذبهم النفط للكويت والسعودية، وحتى الآن لا زالوا صامدين رغم الصعاب، يدغدغ أحلامهم النفط والغاز. أمّا في لبنان، هناك حوالي مليون ونصف “بدون” من نوع آخر، وهم اللاجئون السوريون، أي أضعاف “بدون” النفط. وتعمل القوى العالمية والإقليمية واللبنانية على توطين النازحين السوريين في لبنان سعيًا لمصالح مختلفة، إذ طالب ترامب ذلك في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2017 كي يُعفي الولايات المتحدة عن استقبال أيِّ منهم. وتطمح قوى 14 آذار في توطينهم أملًا في تغيير ديمغرافيّة لبنان وتغليب المكوّن السني على الشيعي.. وكون النزوح السوري إلى لبنان في معظمه اقتصادي وليس أمنيًا، فإن استخراج الغاز في لبنان سيزيد من تعقيد عودة النازحين إلى سوريا. إضافة إلى أن لبنان يقع في إطار الدَيرة الرعوية للنازحين السوريين، ولكن هذه المرة للغاز وليس للعشب.

صمد النازح السوري في الكويت والسعودية سبعين سنة “بدون” أن يفكَ ارتباطه بسوريا، لا سيما اقتصاديًا. وعين النازحين السوريين في لبنان مركّزة على طفرة الغاز اللبناني المرتقبة. ونسب النزوح السوري تفاقم نسب البطالة في لبنان، ما يؤدي لهجرة اللبنانيين. وينافس العامل السوري نظيره اللبناني معتمدًا على المساعدات الخارجية وعلى مستوى معيشي أدنى. وإذا لم تُحلّ مشكلة عودة النازحين إلى سوريا بسرعة، فإن لبنان 2035 سيعود ساحة حرب سنية شيعية كما يريد ترامب.

عدنان الخياط 

!كيف علّمتني مدرسة الأميركان ألا أتعلم اللغة الفرنسية؟

!كيف علّمتني مدرسة الأميركان ألا أتعلم اللغة الفرنسية؟

في عام 1950، أرسلني أهلي إلى مدرسة الأميركان (جيرارد) في صيدا حيث سبقني أخوتي وأخواتي الخمسة. كانت المدرسة من أفضل مدارس لبنان والشرق العربي، وبها قسم داخلي يقصده نخبة الطلاب من السعودية والعراق والبحرين واليمن وإيران. وكان رئيس المدرسة أميركي مستشرق ديناميكي، وضمّت هيئتها التعليمية نخبة من المدرّسين الأميركيين واللبنانيين. ودُرِّس المنهاج باللغة الانجليزية، ودُرِّست اللغة الفرنسية كلغة أجنبية. تخرجت من مدرسة الأميركان (وقد تغيّر اسمها إلى الإنجيلية الوطنية) في عام 1964، وقد تعلّمت اللغة الإنجليزية، بينما لم أعرف الفرنسية لا من بعيد ولا من قريب (كأننا يا دهر لا رحنا ولا جينا).

 

اعتقدت أن عقلي غير مؤهل للغات، وأنّ العلّة في، ولكن عملي أخذني إلى إيطاليا وألمانيا حيث تعلمت اللغتين في الشارع خلال وقت قصير. وكذلك كنت مُلِّمًا باللغات التركية والرومانية والأردية والفارسية والأفغانية واليابانية والصينية والسلافية والبولونية في البلاد التي أخذني عملي إليها. إذا المشكلة ليست في عقلي، فعقلي تعلم لغات عديدة في الشارع بدون مدرسة وبدون مسيو سرور (مدرس اللغة الفرنسية في مدرسة الأميركان).

 

لفتني أن عملي أخذني إلى فرنسا أيضًا دون أن أتعلم شئيًا من الفرنسية في الشارع، ولفتني كذلك أنه لم يتعلم أحد من أخوتي وأخواتي الفرنسية بالرغم من تتلمذهم قبلي عند المسيو سرور. ما سبب ذلك؟ السبب أن مدرسة الأميركان علمتنا ألا نتعلم اللغة الفرنسية. كيف؟ بعد الحرب العالمية الثانية، حلّت الولايات المتحدة محلّ الاستعمار القديم، وتطلّب ذلك إحلال اللغة الانجليزية مكان اللغة الفرنسية في لبنان. كانت حصة درس الفرنسية في مدرسة الأميركان بعد الغداء حيث يخلد معظم الطلاب إلى القيلولة في الصف، وكذلك المسيو سرور الذي كان يعاني من مرض النوم، حيث يخلد هو الآخر إلى النوم في الصف معتمرًا البيريه التي كانت تميّزه. وعليه لم نتعلم اللغة الفرنسية، وكان معظم صفي يرسب مادة اللغة الفرنسية، إلا أن رسوب مادة الفرنسية كانت يُعالج بامتحان إكمال في الصيف ينجح فيه الجميع. فيما كان الرسوب في أي من المواد الأخرى، بما فيها مادة النجارة التي كانت ضمن المنهاج، يُعامل معه بجدية وحزم من قِبل إدارة المدرسة.

14322477_1226497034037379_4787352110300798382_n14322739_1226496807370735_4624354485670498319_n14264980_1226496744037408_8615269531525061441_n

موقف مدرسة الأميركان من مقرر اللغة الفرنسية طبع في العقل الباطن للطلاب أن المادة تحصيل حاصل لا تستحق الجهد. كما أن اختيار مدرس يعاني من مرض النوم خريج بلجيكا في بلد فرانكوفون مثل لبنان لم يكن صدفة ولا هو بريء، إذ نجحت مدرسة الأميركان في طبع صورة في عقلنا الباطن مفادها أن اللغة الفرنسية ليست جدية ويمكن الاستغناء عنها. وعليه يمكنني الجزم أن معظم من تعلم الفرنسية في المدارس الأمريكية (الإنجيلية لاحقًا) لم يتعلم الفرنسية، بل تولّدت عنده مناعة ضد تعلم اللغة الفرنسية. زوجتي سعودية تصغرني بخمس سنوات، التحقت في عام 1960 بمدرسة أميركان بيروت (الإنجيلية) التي كانت تُعلّم الفرنسية. وتخرّجت فادية، الطالبة السعودية المتفوقة، من الإنجيلية دون ان تتعلم اللغة الفرنسية. لقد نجح الأميركيون معي ومع وزوجتي في تعليمنا كيف لا نتعلم اللغة الفرنسية. مطلوب من رفاق السلاح في مدرسة الأميركان أن يدلوا بدلوهم في هذا الشأن. أنا لم أتمكن من التغلب على المناعة ضد تعلم اللغة الفرنسية، فهل من حل أميركي؟

عدنان الخياط –

عندما منحني المتنبي مليون دولار

عندما منحني المتنبي مليون دولار

في ثمانينيات القرن الماضي كانت شركتي في أبوظبي ناشطة في مجال الزراعة الصحراوية والري. ورغم وجود شركات عريقة يملكها مواطنون من قبائل هامة، تمكنت شركتي حديثة العهد من الحصول على حصة وازنة من سوق المضخات وماكينات الديزل.

Cultural+Foundation+and+National+Library_opened+1981

كانت الحكومة تطرح مناقصات من خلال دائرة المشتريات التي كان يرأسها سيف بن أحمد الهاملي، مواطن أبوظبياني مثقف وخلوق ومن قبيلة هامة. طُرحت مناقصة كبيرة قوامها 200 مضخة و200 ماكينة ديزل من نوعية “بلاكستون” وكيلتها شركة المسعود المنافِسة لشركتي وهذا غير قانوني. اعترضت من غير طائل. كان عليّ أن أخسر المناقصة أو أطير إلى بريطانيا وأقنع هوكر سدلي أن يبيعوني ماكينات البلاكستون بالرغم من وجود وكيل لهم في أبوظبي. أقنعت الشركة البريطانية بسهولة بيعي الماكينات بالرغم من علمهم أني منافس وكيلهم في أبوظبي، غير أن الشركة البريطانية اشترطت أن تبيعني في بريطانيا، على أن أتولى أنا مسؤولية الشحن إلى الوجهة التي أريد.

خانت الشركة البريطانية وكيلها في أبوظبي، وشحنت أنا الماكينات إلى رأس الخيمة التي كانت في حينه لا تطبق قانون الوكالات الاتحادي. تنافس على المناقصة الشركة الوكيلة وشركتي. وكانت أسعار شركتي نصف أسعار الشركة الوكيلة المزايدة لغياب المنافسة. وكنت متأكدًا من فوز شركتي بالمناقصة في ظل الوكيل العادل سيف بن أحمد الهاملي. لكن بلغني يومًا أن لجنة المناقصات ستجتمع وترسي على الوكيل بسعر مضاعف لسعر شركتي. والسبب ان سكرتير لجنة المناقصات حسيب، وهو سوداني، أقنع الوكيل سيف بأن شركتي ستورٍّد ماكينات ديزل مصنوعة في الهند وليس بريطانيا.

images-1Ras-al-Khaimah

توجهت على الفور إلى مبنى المناقصات بينما كانت اللجنة منعقدة برئاسة الوكيل سيف. طرقت باب اللجنة، فأجابني حسيب سكرتير لجنة المناقصات “عندنا لجنة راجع غدًا.” واصلت الطرق، وناديت “يا أبو أحمد” (الوكيل سيف)، ففتح الباب الوكيل سيف. سألته “على من رست المناقصة؟” أجابني “على المسعود،” ثم سألني “ما هو مصدر ماكيناتك؟” فأجبته “بريطانيا.” فسألني “أليست من الهند؟” أشرت إلى حسيب، ورددت شعر المتنبي مخاطبًا سيف الدولة: “إن كان سرَّكم ما قال حاسدنا، فما لجُرحٍ إذا أرضاكم ألمُ.” تبسّم سيف، وأمر حسيب أن يرسي المناقصة على شركتي. وبذلك يكون المتنبي منحني مليون دولار ربح المناقصة. شكرا سيف بن أحمد الهاملي، وشكرًا ابو الطيب المتنبي.

ملاحظة: كل الأسماء الواردة في المقال صحيحة، وجميعهم أحياءٌ يرزقون.

 – عدنان الخياط

عقدُ يهوديٌ عربيٌ بضمانةِ إبراهيم الذي وفّى

عقدُ يهوديٌ عربيٌ بضمانةِ إبراهيم الذي وفّى

في ثمانينيات القرن الماضي كانت شركتي في أبوظبي تمثل شركة “يمبخة فيركة” النمساوية التي كانت تنتج مكائن تستخدم في الري بغرض الزراعة الصحراوية. وانتشرت تلك المكائن في الجزيرة العربية والعراق وسوريا واليمن، وبسبب عددها الكبير، كانت شركتي تطلب من الشركة النمساوية دوريًا قطع غيار بمبالغ كبيرة.

 p4

في صيف العام 1984، طلب جوجي، المدير الهندي لشركتي، قطع غيار مستعجلة من “يمبخة فيركة” بالطائرة. وصلت الطلبية من تركيا عوضًا عن النمسا. واكتشف جوجي الفطن، عبر صلاته الهندية، مصدر الطلبية في تركيا. لقد كانت الشركة النمساوية تصنِّع في تركيا، وتبيع الماكينة لنا صناعة نمساوية… باختصار كانت الشركة النمساوية تغشّنا.

2dc61395bbe0aec30f54c8c78393d265-1

بعد اكتشاف جوجي المصنع التركي كان لدينا طلبية قطع غيار من ”يمبخة فيركة” قيمتها مليوني دولار ماطلنا في فتح الاعتماد المستندي لها، وفي هذه الأثناء حصل جوجي على هاتف الشركة المُصنِّعة في تركيا. هاتفت الشركة في اسطنبول، فردّ المدير ياسف يواف، وهو اسم يهودي، فعرّفت عن اسمي وشركتي، وسألت ياسف إن كانت شركته تصنِّع ماكينة الديزل. أجاب بنعم. قلت لياسف إنّي سأتوجه إلى مطار أبوظبي لألحق طائرة منتصف الليل إلى اسطنبول، “أراك غدًا.” أجابني ياسف، “هوس جلدِنيز!” (أهلا وسهلا بالتركي).

Made in Turkey

وصلت صباح الخميس إلى اسطنبول برفقة زوجتي، وتوجهت إلى شركة “تكنيكال”، استقبلني ياسف وشريكه حاسد، وهو يهودى تركي. قلت لياسف إنه لديّ طلبية مستعجلة لقطع غيار ماكينة الديزل كبيرة، وناولته قائمة الطلبية. نظر إلى الطلبية ثم نظر في وجهي قائلًا: “طلبيتك جاهزة للشحن فورًا، فلقد أعددناها لشركة ‘يمبخة فيركة’ النمساوية منذ شهرين ولم تطلبها بعد.”

– “وكم ثمنها؟!

– أجابني ياسف: “خمسمائة ألف دولار.” (“يمبخة فيركة” كانت تبيعها لنا بأربعة أضعاف السعر التركي).

– قلت لياسف: “أنا أشتريت، وأريد شحنها بالطائرة فورًا، فلديّ التزام متأخِّر لتوريد الطلبية للبلدية.”

طلب مني ياسف أن أذهب إلى الفندق مع زوجتي لارتاح من عناء السفر، بينما سيرتّب هو شحن طلبية قطع الغيار إلى أبوظبي. وقبل مغادرتي، أوصاني ياسف أن انتظره وزوجتي لكي نتعشى سويًا.

c4209

وفي السابعة مساء اتصل ياسف من بهو فندقي طالبًا إليّ النزول مع زوجتي للذهاب للعشاء خارج الفندق. سألته عن شحنة قطع الغيار، فأجابني قائلًا، “كل شيء مرتب، لا تقلق.” وأثناء العشاء، سألته عن شحنة قطع الغيار، فأجاب: “هناك طائرة صينية تفرِّغ الآن حمولتها في مطار اسطنبول وتعود فارغة إلى أبوظبي. أجَّرت هذه الطائرة لشحن طلبيتك، وستصل إلى مطار أبوظبي غدًا الجمعة عصرًا. ولذلك عليك المغادرة الليلة لتستلم الشحنة.”

– أجبته: “لكني لن أقدر على دفع ثمن الطلبية لا اليوم ولا غدًا لأن الجمعة هو العطلة الأسبوعية في أبوظبي.”

– “لا تحمل همًّا. المهم أن تفي بالتزماتك وتورِّد قطع الغيار للحكومة.”

قلت له مستغربًا: “أنت لا تعرفني، وهناك احتمال أن أستلم الشحنة غدًا، وألا أدفع، فتخسر أنت خمسمائة ألف دولار.”

– التفت ياسف إلى زوجتي قائلًا: “زوجك عازمٌ على أن يخرب الجلسة بالمال… أنا متأكد أني لم أخطئ في تقدير ابن العم عدنان بيه.”

teknikel-home-logo1401270520

ومن المطعم للفندق ثم المطار. استلمت الشحنة يوم الجمعة في أبوظبي بالفعل. وسلّمها جوجي السبت إلى البلدية. وحوّلت لياسف ثمن الشحنة، واستلمها هو يوم السبت في اسطنبول.

هاتفني ياسف قائلًا: “استلمت ثمن الطلبية. كنت على حق في رهاني عليك. كان أجدادنا يرتبطون بكلمة. علينا الحفاظ على قيم جدّنا إبراهيم الذي وفّى يا ابن عمي.”

عدنان الخياط

مطلوب من الرئيس السنيورة ضرائب جديدة يصفق لها الناس

مطلوب من الرئيس السنيورة ضرائب جديدة يصفق لها الناس

كتبت المقال التالي في عام 2005 تحت عنوان “مطلوب من الرئيس السنيورة ضرائب جديدة يصفق لها الناس”، ونُشر في جريدة النهار في العام نفسه. مضت 12 سنة ولم يصفق الناس بعد، وما زال الهدر سيد لبنان.

مطلوب من الرئيس السنيورة ضرائب جديدة يصفق لها الناس
عدنان الخياط

جريدة النهار ــ العدد 22410 ــ 29 آب 2005

اقترن اسم فؤاد السنيورة وزير المال بعد الحرب الأهلية٬ بالضرائب الجديدة والمطورة والرسوم الخلاقة التي أهداها للشعب اللبناني دواء للبطالة والركود الاقتصادي وتآكل القدرة الشرائية لليرة وازدياد الفساد وتفاقم الدين العام. ولعل فؤاد السنيورة٬ وزير المال٬ كان مقتنعا بطروحاته الضريبية التي دافع عنها دفاعًا شرسًا بالرغم من أن كل الأطياف والتوجهات المتناقضة للأسرة اللبنانية عارضتها.

Lebanese members of parliament attend a session in Beirut

وكان السنيورة يردد مع كل ضريبة جديدة يهديها للبنانيين أنه لا يرغب في أن يصبح وزيرا شعبيًا للمال إذا كان ذلك على حساب الإصلاح المالي الإنقاذي (الذي لم يأت). بكلام آخر فالسنيورة كان قد اختار التوجه الفدائي في سياسته الضريبية مدركا مسبقًا انعكاساتها غير الشعبية على شخصه الكريم. وهكذا جاءت جميع ضرائب السنيورة من فئة “آخر الدواء الكي” في جسم لبنان المالي المثقل بحروق حرب أهلية أتت نارها على كل مرافق الإنتاج ودمرت البلاد والعباد.

fouad-siniora-former-prime-minister-lebanon

واللافت في كل الضرائب والرسوم التي أحدثها السنيورة أنها تناولت بالدرجة الأولى القاعدة العريضة من المكلفين بغض النظر عن وضعهم المالي. أما فئة أصحاب الدخول العالية٬ أفرادًا ومؤسسات٬ فلم يخصها في حينه بنعمه الضريبية كما خص القواعد العريضة الفقيرة بها. فالقطاع المصرفي الذي كان السنيورة رئيسًا لأكبر مجموعة فيه، ناله الكثير من الإعفاءات الضريبية التي لم يكن لها ما يبررها بحسب آراء العديد من الخبراء. هناك ضرائب كان يجب على السنيورة أن يصدرها ولم يفعل. وهو مدعو٬ رئيسًا للوزراء٬ أن يسرع إلى إصدارها. هذه الضرائب المقترحة سوف يصفق لها الناس وستجعله رئيسًا شعبيًا للوزراء ومحبوبًا ايضًا. ولأن الضرائب التي سوف اقترحها تتناول المال السائب، الذي علَّم ويُعلِّم أهل السلطة الحرام، فهي في حال فرضها لن تكوي بنارها لا الفقراء ولا الأغنياء٬ بل تضع الأمور في نصابها الصحيح ليس إلا.

liban

الضريبة الأولى المقترحة هي ضريبة لوحات السيارات الخاصة ذات الأرقام الصغيرة أو المتميزة. هذه اللوحات التي يتهافت عليها في لبنان طلاب التميّز يكلف الحصول عليها موافقة وزير الداخلية ليس إلا. وعليه فقد جرت العادة أن يوظف وزراء الداخلية هذه السلطة في خدمة مصالحهم ومصالح ذوي النفوذ في الحكم٬ من طريق صرف هذه اللوحات للأصحاب والأزلام والوزراء والنواب والمفاتيح الانتخابية وما شابه ذلك. أما أساتذة المدارس والجامعات المتميزون أو موظفو طوارئ الكهرباء المتميزون والأوادم والمواطنون الصالحون وأمثالهم٬ فلم يكونوا يومًا على قائمة وزراء الداخلية في توزيع اللوحات المتميزة هذه في أي من العهود. وباختصار هذه اللوحات تعني الولاء للسلطة أو الثروة أو الوساطة أو الفساد في غالب الأحوال (مع بعض الاستثناءات).

والراهن أن هذه اللوحات التي يملك وزير الداخلية سلطة منحها أو استردادها٬ يفترض أنه ليس لها ثمن٬ لأن القانون لا يسمح بتوزيع المال العام استنسابيا. غير أن الواقع جاء خلافًا لذلك. فاللوحات هذه لها ثمن عال في سوق العرض والطلب اللبنانية. فاللوحات الثلاثية الأرقام وبعض الأرقام المتميزة يبلغ سعر واحدتها ما بين 20 و30 ألف دولار أميركي في السوق السوداء لهذه اللوحات. لقد أعلن عن هذه الحقيقة (المعروفة أصلًا) كل من ميشال المر وحسن السبع وزيري الداخلية في حكومتي الحريري وميقاتي. المر اتهم عام 2002 على الهواء ابن أخيه سميّه ميشال بالاتجار بهذه اللوحات التي كان الوزير المر نفسه قد وهبها له (ولسواه أيضًا). طبعًا صدر الاتهام والتهديد بالمقاضاة عن الوزير المر لابن أخيه بعد أن فقد الود بين ميشال وغابي إثر ترشيح الأخير في متن أخيه٬ في الانتخابات الفرعية عام 2002.

1272344948

الوزير السبع اتهم هو أيضًا على الهواء سليمان فرنجية وزير الداخلية سابقه بتوزيع 25 ألف لوحة على أزلامه ومحاسبيه٬ وقد وعد السبع كذلك بالتحقيق وإعادة النظر في تلك اللوحات. السبع هو الآخر تنبه إلى تصرف فرنجية باللوحات (ذات الثمن العالي) بعد أن تهجم فرنجية عليه ونعته بنعوت غير لائقة٬ وليس قبل ذلك. إن اللوحات هذه لها ثمن. وهناك بالطبع في لبنان من هو مستعد لدفعه. وحيث أن عدد هذه اللوحات يزيد على 100 ألف لوحة٬ فإن وضع قيمة إسمية لها سيكون له مردود مالي كبير على الخزينة الخاوية. ولأن الضريبة المقترح فرضها على اللوحات ستكون اختيارية التنفيذ٬ فهي لن تصيب الفقراء وذوي الدخل المحدود هذه المرة خلافًا للعادة.

12453getimage

لقد لحظت إمارة دبي في العام 2001 أن هناك طلبًا على اللوحات ذات الأرقام المتميزة وأن هناك إمكانات لتوظيفها في دعم خزينة الإمارة الغنية جدًا. لهذا الغرض قامت الإمارة بتصنيف الأرقام المتميزة إلى فئات بدءًا بالأرقام الأحادية والثنائية (إذ ليس في دبي أرقام خاصة بالوزراء والنواب) والثلاثية والرباعية والخماسية والأرقام المتميزة الأخرى. وأصدرت الإمارة قانونًا وضع قيمًا إسمية لأرقام كل فئة. وقد أعطى القانون من كان يملك رقمًا من أي من الفئات فرصة لدفع القيمة الإسمية والاحتفاظ بالرقم. أما من اختار عدم دفع القيمة الإسمية من الذين لديهم أرقام مميزة٬ فتسترد سلطة المرور الرقم منه وتمنحه رقمًا آخر. لقد دخل خزينة إمارة دبي فور صدور قانون اللوحات الخاصة المتميزة 350 مليون درهم (95 مليون دولار) من عائدات القيمة الإسمية للوحات المتميزة التي احتفظ بها من رغب ممن كانوا يمتلكونها. أما اللوحات المستردة٬ فقد دأبت الإمارة على طرحها في مزادات علنية منذ العام 2001. وهذه المزادات التي وصل عددها إلى 117 حتى تموز 2005 جمعت مئتي مليون درهم (حوالي 50 مليون دولار). بذلك تكون إمارة دبي الغنية قد حققت من اللوحات الخاصة المتميزة أكثر من مئة مليون دولار خلال ثلاث سنوات فقط٬ وحققت إضافة عدالة مساواة مواطنيها أمام القانون أسوة بالبلدان الديمقراطية والمتمدنة.

c329a94d1e654c09bb6316ead343d0c8-c329a94d1e654c09bb6316ead343d0c8-0_560131_largeLebanon Taxes600956_img650x420_img650x420_crop

إن عدد السيارات الخاصة في لبنان يفوق أضعافًا عددها في دبي. كما أن طلاب التميّز ورغّاب اللوحات المتميزة هم كذلك أكثر من أقرانهم في دبي. أما حاجة لبنان إلى الموارد المالية٬ فهي على ما أعتقد أكبر من حاجة دبي إليها بدليل أن السنيور٬ طرق كل الأبواب الضريبية بحثًا عن الموارد٬ إلا باب اللوحات المتميزة والكثير من أمثالها. لا نريد الدخول في الأسباب التي منعت السنيور٬ من اكتشاف المورد من اللوحات المتميزة٬ وهو الذي لم يوفر شباب خدمة العلم ذوي الأكثرية الفقيرة ورافد البطالة اللبنانية المستفحلة٬ من ضريبة الإعفاء من خدمة العلم.

164687_img650x420_img650x420_crop.jpg

489567_img650x420_img650x420_crop

لا شك في أن عوائق حالت دون إصداره ضرائب تستهدف مئة ألف من المتميزين والمحظيين ولوحات سياراتهم على مدى أربع حكومات حافلة بالضرائب والرسوم الجديدة. أما الآن وقد أصبح السنيورة رئيسًا لحكومة غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية اللبنانية٬ فما الذي يمنعه من الاقتداء بدبي في جمع المال والتعامل الديمقراطي المتمدن مع مواطنيها؟ لا خوف من أن ينزعج خاطر أكثر من مئة ألف من المتميزين٬ فمعظم هؤلاء سيدفعون القيمة الاسمية التي سيفرضها القانون صونًا للتميز. أما المزادات التي نرجو ألا يشملها فن الفساد الرسمي اللبناني٬ فسيتبارى فيها المتعطشون إلى التميز ممن لم يشملهم وزراء الداخلية بالبركات إلى شراء التميز في المزادات. ختامًا نريد أن نسأل ما إذا كان وزير الداخلية السابق ميشال المر قد نفّذ تهديده الذي كان قد أطلقه على الهواء بمقاضاة ابن أخيه بتهمة الاتجار باللوحات ذات الأرقام المتميزة. فإذا لم يكن قد نفّذ فإننا نضع تهديد المر بمقاضاة ابن أخيه إخبارًا بتصرّف النيابة العامة الجزائية والنيابة العامة المالية. وفي المعرض نفسه٬ فإننا نسأل وزير الداخلية حسن السبع عما آل إليه وعيده بإجراء التحقيق حول تصرف الوزير فرنجية بخمس وعشرين ألف لوحة متميزة على الأزلام والمحاسيب. إننا نضع وعيد الوزير السبع هو الآخر إخبارًا بتصرف النيابتين العامتين التمييزيتين الآنفتي الذكر. نعم سيصفّق لك الناس وستصبح شعبيًا ومحبوبًا ومنصفًا وعادلًا وفوق كل هذا ديمقراطيًا بالممارسة٬ وستنال ثقة الناس هذه المرة رئيسًا لمجلس الوزراء.

أنا السني الوحيد‎

أنا السني الوحيد‎

هاتفني صديقي علي كرشت (أبو حسن) من القاهرة ظهر يوم 27 نوفمبر 2013، وأخبرني أنه مسافر إلى جوبا، عاصمة جنوب السودان، صباح اليوم التالي، وقال “قابلني في القاهرة صباحًا، ولنسافر معًا.” وبالفعل حجزت تذكرة على طائرة “مصر للطيران” المغادرة بيروت إلى القاهرة في السابعة مساء نفس اليوم، على أن أطير من القاهرة إلى جوبا صباح اليوم التالي بمعية أبو حسن.

ذهبت إلى مطار بيروت واصطفّيت أمام شباك خطوط “مصر للطيران”. مشى تجاهي شاب عشريني مفتول العضلات ومهذب، وضح لي من لهجته أنه من جنوب لبنان. سألني: “هيدي طيارة جوبا يا حج؟” أجبته: “هيدي طيارة القاهرة، ومن القاهرة بتغير الطيارة إلى جوبا بكرة الصبح.” شكرني موضحًا أنه يغادر لبنان أول مرة، ويستقل طائرة كذلك لأول مرة. أثناء محادثة الشاب لي، تجّمع حوله ثلة من الشباب، وطرحوا نفس السؤال: “هيدي طيارة جوبا؟ والحج من وين؟” أجبت “من  صيدا.” ثم سؤلت، جماعيًا، “من حارة صيدا؟” وهي ضاحية أغلب سكانها شيعة، لأن سُنّة المدينة عمومًا لا يهاجرون، ولا سيما إلى أفريقيا. أوضحت أني لست من حارة صيدا – أي سُنِّي.

IMG_4324

التقيت صديقي أبو حسن صباح اليوم التالي أمام البوابة المتجهة إلى جوبا في مطار القاهرة. وكان برفقة شاب اسمه فادي مخوّل. واللافت أن معظم الركاب المنتظرين أمام تلك البوابة كانوا شباب من الجنوب اللبناني في العشرينيات والثلاثينيات من العمر، مما جعل الجو في البوابة يبدو كساحة الضيعة. طالني تعارف مناطقي وعائلي أكثر من مرة: “منين حضرتك يا حج؟”… “أنا عباس من برعشيت” أو “مهدي من حومين” أو “حسين من دير سريان”… “شو عندك شغل بجوبا يا حج؟!”…. “أنا صهري عندو فرن مناقيش ورايح اشتغل معو” أو “خيي بلاط مدبرلي شغل أو عمدوّر على شغل.” وعندما نودي علينا لطلوع الطائرة، كنت قد تعارفت على معظم الركاب الشباب، وكثيرون منهم يستقلون طائرة لأول مرة في حياتهم. دخلنا الطائرة، وأُجلست وصديقي أبو حسن في الصف الأول، فيما دخل الشباب الذين ألقوا السلام علينا باعتبارنا معرفة.

150790-004-276BAF2C

وبعد إقلاع الطائرة حضر فادي مخول ودار بيننا الحوار التالي:

 

مخوّل: “أول مرة بيتجي على جوبا، خواجا؟”

أنا: “لا، جئت مرات عديدة.”

– “وكيف ملاقي البلد والناس؟”

– “البلد بكر وساحر، والناس ودودون وبسطاء.”

– ردّ بعصبية: “أنا بجي غصبًا عني. ما بعرف كيف الجنوبي بعيش بهيك بل!”

– “من أين أنت؟”

– “من رميش.”

– “لكن رميش في الجنوب؟!”

 

لم يكن لدى مخوّل ما يقول سوى أنه سيصلح الجرّافة التي أتي بسببها، على أن يعود في اليوم التالي من “الأدغال المقرفة.”

150787-004-C29DB33E

وخلال الأربع ساعات التالية، وهو زمن الرحلة من القاهرة إلى جوبا، تناوب على زيارتي الشباب الذين تعرفت عليهم في مطاريّ بيروت والقاهرة. القاسم المشترك بينهم هو الحماسة والرغبة في العمل والنجاح وقهر الفقر والتهميش التاريخي في لبنان. لم يذكر أي من الشباب “أدغال” أو “قرف” من جنوب السودان أو مصاعب الحياة، ولا حتى ذكروا الملاريا ولا الإيبولا.

juba-1_72207711_020370938-1

زار عباس مقعدنا سائلًا: “ايمتى بنوصل يا حج؟” أجبته “بعد ثلاثة ساعات.” وسأله أبو حسن “في حد ناطرك بجوبا؟” فردّ: “ما بعرف! ما كنت عارف إني مسافر. رحت عالمستشفى أخذ الطعم، وما كان عندهم طعم بالمستشفى. اليوم راح خالي عالمستشفى دفع خمسين ألف وجبلي شهادة تطعيم لسمحولي سافر.” فقلت له: “لكن الطعم ضروري لحمايتك يا عباس.” أجابني، “أهم شي أوصل على جوبا! الصحة والعافية على الله.

أخذ شاب آخر اسمه ماهر مكان عباس، وسألنا إذا كنا نعرف “ملكال،” المدينة الثانية في جنوب السودان.  وأخبرنا ماهر أن صهره سيرسله لفتح فرن في ملكال. وكان عُمر ماهر عشرين سنة، وكانت المرة الأولى التي يغادر فيها لبنان، ومع ذلك لم يكن قلقًا، بل كان واثقًا من النجاح.

الجنوبي الشيعي فتح أفريقيا بعزيمة الفرسان. ولم يثنه شيء، لا الملاريا ولا الأدغال ولا المنافسة الهندية والإسرائيلية وغيرها. فتح الجنوبي أفريقيا، بدون دعم من الدولة اللبنانية، ونجح. وقد ساهم نجاح الجنوبي الشيعي في أفريقيا في تنمية لبنان لا سيما بيروت والجنوب الذي كان خارج خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والأموال المحوّلة من اللبنانيين أفريقيا، مع طفرة النفط في خمسينيات القرن الماضي، أنتجا لبنان الحديث (سويسرا الشرق).

وصلنا إلى جوبا، وذهبت إلى فندق “غراند”، وهو الأهم في جوبا، وكان عبارة عن حاويات شحن محوّلة لغرف نوم بين أشجار المانجو البرية. وشاركني الغرفة قرد يسكن على سطح الغرفة. وفي المساء اتصل بي الاستقبال قائلًا لديك زوار. ذهبت إلى الاستقبال لأجد الشباب معارفي من مطاريّ بيروت والقاهرة بانتظاري. رحبنا ببعضنا البعض وجلسنا. جاء النادل وسأل الشباب عن طلباتهم. شاي للجميع. ثم خاطبني عباس: “يا حج إذا بدك شي نحن بالخدمة ليل نهار،” وأعطاني رقم تليفونه. شكرت عباس على نخوته وسألته: “كيف شايف البلد؟” أجابني: “عال العال. الشغل هدف الشباب، وأي شي تاني مش مهم.” وسألني: “حضرتك يا حج ليش معذب حالك؟ جماعتك ما بيجوا على أفريقيا.” أجبته: “كي أؤكد على أن صيدا عاصمة الجنوب وبوابته.”

عدنان الخياط –

هل يتحقق حلم الدولة الكردية بدون حرب سنيّة سنيّة؟

هل يتحقق حلم الدولة الكردية بدون حرب سنيّة سنيّة؟

كنت في بيتي في النمسا أشاهد التلفزيون في ربيع عام 2004، حين ورد خبر عن تسيير أول رحلة للطيران النمساوي في اليوم التالي من فيينا إلى أربيل، عاصمة إقليم الحكم الذاتي الكردي في العراق، والتي يسميها الكرد “هولير”. طمحت أن أكون من بين ركاب الرحلة التي تغادر في اليوم التالي، لكني لم أملك فيزا. فهاتفت صديقي النافذ سرباز في أربيل، فقال لي “توجه إلى مطار فيينا غدًا، وسيقابلك مندوبًا من قِبلي يؤمن لك صعود الطائرة، وحين تصل إلى أربيل، توجه إلى شباك رقم 1، وستكون فيزتك بالانتظار.”

4007516175_4e2a7b2665_b-1

فعلت كما طلب مني كاكا (الأخ بالكردي) سرباز. وصلت إلى شباك رقم 1، وناولت جواز سفري إلى الشابة الملازم ثاني التي قالت بوجه جميل وبشوش: ” سرشاو!” (أي مرحبًا بالكردي). أجبتها: “سرشاو به خير به” (أي مرحبًا، خير على خير)، وهو كل ما أعرف من اللغة الكردية السورانية. بقيت الشابة بشوشة وفتحت معي حديثًا طويلًا بالكردية لم أفهمه. أجبتها بالعربية: “أنا لا أتكلم اللغة الكردية للأسف،” فتجهم وجهها، وقالت بنبرة عدائية بالإنكليزية: “أنت كردي لا تتكلم لغتك. هذا مؤسف ومحزن! لا تتكلم اللغة وتنكر أصلك، بل وتتحدث بلغة المستعمر الظالم الذي قتل أهلك بالغاز في حلبجة، وأضافت قائلة: “والدي يتكلم العربية، لغة المستعمر، لكنه يتكلم الكردية بطلاقة.” فقلت لها بهدوء أني لبناني عربي ولست كرديًا. وقفت لتعيد إليّ جواز سفري بعد ختم الفيزا عليه فقرات اسمها على جيب قميصها “مولوكي خياط” وهو اسم اختي.

305b0f1a026969cc2731ca6993cccf73

بسبب اسم عائلتي واسم والدي “صلاح الدين” وبشرتي الفاتحة، كان لزامًا عليّ، في كل تعارف جديد مع شخص كردي، أن أجزم بأنني عربي (أو عوربي كما يسمّينا الكرد) ولست كرديًا.

في أول مرة زرت فيها أربيل قبل الغزو الأميركي في عام 2003، انطلقت من بغداد مع سائق أجرة كردي اسمه جوان. قال لي جوان أن دخولي الإقليم غير مضمون لأنه لا يُسمح بدخول الإقليم إلا للعراقيين الكرد من مواليد الإقليم. ولكن لم يثنني إنذار جوان عن المحاولة. دخلت الإقليم بمساعدة اسم عائلتي واسم والدي وبشرتي الفاتحة. وقبل أن يأخذني جوان الى الفندق، توقف أمام جامع كبير فخم على الطراز العثماني، فقرأت عليه “جامع جليل الخياط”. بحلق جوان في وجهي قائلًا: “هنا تتعلم بالمجان لغتك الكردية، وتعود إلى عشيرتك، فالعوربي عدوك ولو تكلمت لغته. دولتنا الكردية باتت قريبة. لا تضيع الوقت وتعلّم الكردية.” أجبت جوان: “ولكنني عربي، ولست كرديًا،” فردّ قائلًا بحزم: “أنت غلطان!” وعندما ودّعني جوان في فندق “تشار تشيراه” في أربيل، أصرّ على أن يكلمني بالكردية، ولم يعد ينطق بالعربية التي يجيدها أحسن مني؛ جوان أربيل أمسى غير جوان بغداد.

توجهت لاستقبال الفندق، وسألت بالعربية إن كانت هناك غرفة شاغرة لي. أجابني موظف الاستقبال بالنفي. ناولته جواز سفري ورجوته أن يساعدني على إيجاد أي فندق آخر أحجز به. قرأ اسمي، فأشرق وجهه وكلمني بالكردية مطولًا. قلت له أني لا أفقه اللغة الكردية، فردّ قائلًا: “ستتعلمها لأنها تجري في دمك. غرفتك جاهزة، فصاحب الفندق هو كاكا دارا ابن مام (العم بالكردية) جليل الخياط، والذي يسرّني أن تتعرف إليه، فهو رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة في العراق.” حاولت أن أشرح لموظف الاستقبال أني عربي بلا جدوى، بل وأصرّ أني كردي سوراني عليّ أن أتعلم لغتي لا أكثر ولا أقل.

front

الدولة الكردية المستقلة تسري في وجدان الكرد، والعداء والكراهية للـ”مستعمر” العراقي والتركي والسوري والإيراني يغلي في دماء هُدرت من جميع الأطراف في حرب لا تنتهي.

كرد العراق الستة مليون يتمتعون بحكم ذاتي والعراق يعترف بالقومية الكردية واللغات الكردية الثلاث وبالتاريخ الكردي. بالمقابل فإن كرد تركيا السبعة عشر مليونًا لم تُعترف بقوميتهم أو لغتهم أو تاريخهم من قِبل الدولة التركية سوى في عام 2009. وفي إيران، يعيش ستة ملايين كردي، وسوريا يسكنها ثلاثة ملايين كردي. القاسم المشترك لكرد البلدان الأربعة هو توقهم لإقامة دولتهم المستقلة وشعورهم بالدونية من قِبل قوميات البلدان الأربعة.

والكرد يشكلون أكبر قومية في الدنيا ليست لها دولة. فهناك ما يزيد على الخمسة وأربعين مليون كردي في البلدان الأربعة وفي الشتات بدون دولة، فيما قطر دولة، والبحرين مملكة، بلجيكا مملكة، وجزر القمر جمهورية، وهي كلها دول ذات تعداد سكاني أقل بكثير، وكلها أعضاء في الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

160175-004-1e012468

ليس صحيحًا أن الكرد لم يكن لهم دولة على مدار التاريخ، فالدولة الأيوبية في سوريا ومصر حاربت الصليبيين واسترجعت القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي. وقد أسس الكرد دولة مهاباد في شمال شرق إيران بعد الحرب العالمية الثانية في عام 1946، لكن إيران أجهضتها بعد أحد عشر شهرًا فقط وشنقت رئيسها. وكاد كرد العراق يستقلون في عام 1970 بعد حرب دامية مع الجيش العراقي، والتي ساعدتهم فيها إسرائيل بالسلاح والخبراء، لولا وساطة الجزائر بين شاه إيران وصدام حسين، والذي كلّف العراق خسارة شطّ العرب لصالح إيران.

باتت الدولة الكردية قريبة كما قال لي السائق جوان. ولكن هذا يعني تفتيت كل من العراق وتركيا وسوريا وإيران، وإقامة دولة كردية كبيرة. وهذه الرقعة غنية بالموارد الطبيعية والماء، ولدى أبنائها خبرة قتالية طويلة ومشاعر ثأرية وكراهية تجاه المستعمر. أهم شيء هو أن الدولة الكردية العتيدة ستكون دولة مسلمة سنيّة في مواجهة تركيا السنيّة والعراق السنيّ وسوريا وكذلك إيران. ويُذكر أن القاضي الذي حكم بالإعدام على صدام كان كرديًا، وقاتل الملك فيصل الثاني كان ضابطًا كرديًا.

Iraqi Kurds celebrate the first day of spring

فهل يتحقق حلم جوان بالدولة الكردية، فتُفتت المنطقة وتبدأ الحرب السنيّة السنيّة التي لن تنتهي؟ سيرشاو كاكا جوان… أنا عوربي أؤيد حق الكرد المشروع في إقامة دولتهم، ولكن بدون حرب سنيّة سنيّة. به خير به.

كاكا عدنان صلاح الدين الخياط (العوربي)

12 يناير 2018: #جمعة_التضامن_مع_مسيحيي_العالم_العربي

12 يناير 2018: #جمعة_التضامن_مع_مسيحيي_العالم_العربي

أطالب شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب بأن يعلن أن يوم الجمعة 12 يناير/كانون الثاني من عام 2018، الموافق 25 ربيع الآخر من عام 1439، هو جمعة التضامن مع المسيحيين في مصر والعراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين. وهذا أقل الإيمان في ظل ما يتعرض له المسيحيون من بشاعات في بلدانهم الأصلية، قبل أن تصبح بلدان المسلمين. إننا نقف على مفترق طرق خطر: طريق سيودي إلى تهجير ما تبقى من المسيحيين وإفراغ الشرق منهم ومن الأقليات غير المسلمة الأخرى؛ وطريق آخر، رغم ضيقه ووعورته، قد يؤدي لعودة المسيحيين إلى ديارهم التاريخية.Woman holds a copy of the Koran and a cross as she shouts slogans during a demonstration against Egypt's President Mursi in front of the presidential palace in Cairoa6ea63bb882f3714350f6a70670060ff2015-05-14-niles-c

كان تعداد النسيج المسيحي في العراق قبل الغزو الأميركي في عام 2003، مليون ونصف المليون شخص، واليوم تناقص عددهم إلى 300 ألف شخص، وهو مرشح للتناقص بوتيرة أسرع بعد احتلال داعش للموصل وسهل نينوى. لقد ذاق المسيحيون الأمرّين في ظل حكومات بغداد ما بعد صدام، وذاقوا العلقم والسبي وجهاد النكاح في ظل ما يسمّى بـ”الدولة الإسلامية”. والمسيحي العراقي اليوم خائف، وخوفه مبرر، ولا شيء يلوح في الأفق قد يزيل عنه شبح الخوف هذا.

إن المكوّن المسيحي العراقي يضمّ بين طيّاته تاريخ بلاد ما بين النهرين. ولكن ذلك التاريخ يتلاشى يومًا بعد يوم في ظل صمت من الأكثرية المسلمة يرقى إلى الرضا المشين. وينطبق الوضع ذاته على اليزيدية والشبك والصابئة والبهائية والبابية والكاكائية وغيرها من المكوّنات التي تحيك النسيج البشري العراقي الفريد الذي صمد على مدار خمس آلاف سنة، وشيّد حضارات إنسانية خالدة.

وفي سوريا، كان تعداد المسيحيين قرابة المليونين قبل بدء الحرب الأهلية (أو الثورة أو سمِّها ما شئت)، ولكن اليوم عددهم تناقص إلى حوالي 500 ألف، ودُمرت كنائسهم وأديرتهم، وخُطف مطارنتهم وراهباتهم، وقُتلوا في ظل صمت إسلامي يرقى إلى الرضا المريب. وتعمّق جُرح مسيحيي سوريا بعد معركة حلب، المدينة التاريخية التي كان يسكنها وحدها قرابة النصف مليون مسيحي. وهجرّت الحرب السورية كذلك سكان حمص القديمة، ومعلولا ذات الأكثرية المسيحية، والتي لا زال يتحدث بعض أهلها يالآرامية، لغة المسيح.

وفي سوريا، كما في العراق، طال أمد التهجير والعنف ضد الأقليات الدينية من الشيعة والدروز والإسماعيليين واليزيديين وغيرهم. بينما في ظل حكم حافظ الأسد، كما في ظل حكم صدام حسين، نعِمَ المكون المسيحي بالأمان، ومثله الأقليات الدينية والإثنية الأخرى. ولكن الغزو الأميركي أطلق وحش التعصب السلفي الكامن في العراق وسوريا، والذي طال سُمّه الزُعاف العالم أجمع، وهو العامل الأساسي في تهجير مسيحيي العالم العربي.

1481582814477Children from minority Yazidi sect, fleeing violence from forces loyal to Islamic State in Sinjar town, make way towards Syrian border, on outskirts of Sinjar mountain

وفي لبنان التي عصفت به حرب أهلية واجتياحات إسرائيلية منذ عام 1975، دُفع بالمكون المسيحي دفعًا للهجرة، فأُخلَّ بالتوازن الإسلامي المسيحي الذي أُسس عليه لبنان. وما تبقى من المسيحيين في لبنان مرشحين للهجرة تحت ضربات الأصولية السنيّة المتوحشة. وعلى سبيل المثال، استُهدفت القاع المسيحية بسلسلة من العمليات الانتحارية التي راح ضحيتها عدد كبير من الأبرياء في شهر يونيو/حزيران. وكنا ننتظر ونتوقع رد فعل إسلاميّ سنيّ مدوٍ، لكنه جاء خجولًا واهنًا.

والأردن ليس أحسن حالًا من لبنان، فالمكوّن المسيحي القبلي المناذري يتقلّص هو أيضًا خوفًا من أمثال وأتباع الزرقاوي. ولم يضمّد جُرح مسيحيي الأردن احتضان الملك لهم. وما يزيد الطين بلّة، هو أن أقرباء مسيحيي الأردن في فلسطين رحلوا وتركوا كنائسهم وأديرتهم خالية في قداديس الميلاد!

وفي مصر – التي تحتضن ما يقارب من العشرة مليون مسيحي، وهو التجمع الأكبر في العالم العربي، وأغلبهم من القبط الذين أوصى بهم الرسول وتزوج فيهم – يتعرض مسيحيوها لهجمة دموية متوحشة وظالمة تستهدف كيانها ووجدانها. فأقباط مصر يتعرضون للقتل والضيم وتفجير كنائسهم في ظل صمت من الأكثرية المسلمة ومرجعياتها، ولا سيّما الأزهر، أعلى مرجعية إسلامية سنية… صمتٌ يرقى إلى الرضا المخزي. والتفجير الأخير يوم الجمعة الذي استهدف كنيسة مارمينا بمنطقة حلوان جنوبيّ القاهرة ومتجرا يمتلكه قبطي، والذي أودى بحياة تسعة أشخاص على الأقل، وقبله تفجير الكنيسة المرقسية بالأسكندرية في أبريل/نيسان 2017، والذي أودى بحياة 16 قتيلًا. وفي ديسمبر/كانون الأول 2016، تفجير الكنيسة البطرسية في القاهرة، والذي قتل 27 قبطيًا وجرح عشرات الآخرين. تحرّكت السلطات المصرية والأزهر، ولكن ليس بالقدر المطلوب. والمطلوب هو موقف جديّ وشجاع تجاه الهجمة الشرسة التي يتعرض لها أقباط مصر من تنظيم الإخوان المسلمين والتنظيمات السلفية.

أطالب الأزهر بأن يعلن الجمعة 12 يناير 2018 أن تكون “جمعة التضامن مع المسيحيين في العالم العربي“، وتحديدًا في مصر والعراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين. وبذلك سيكون موقف الأزهر واضحًا بلا ريب، ومؤيدًا للمكوّن المسيحي في عالمنا العربي، كي لا نكون من الساكتين عن الحق.

عيد ميلاد مجيد للمسيح الذي وُلد هنا على هذه الأرض… وليس في المهجر

tawadros-and-tayyeb

نرجو تسجيل الحضور ونشر صفحة المبادرة على صفحتي على فيسبوك.

عدنان الخياط –